المادة    
من أهم الموضوعات التي يجب عَلَى طالب العلم أن يلم ولو بقدر منها، حقيقة نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونبوة غيره من الأنبياء، لأن من أركان الإيمان: الإيمان بأنبياء الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فلا بد من معرفة النبوة وما حقيقتها ومدى حاجة النَّاس إليها وأمثال ذلك مما يجب أن يعلمه المسلم ولو إِلَى حد ما.

ويتبين لنا عظمة النبوة وأهميتها إذا عرفنا أن كل شي من الدين يعتبر فرعاً عن إثبات النبوة، فالإيمان بالقرآن الذي هو كلام الله -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- متفرع عن الإيمان بنبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا كَانَ كفار قريش يجادلون النبي صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنه ليس بنبيٍ؛ ليتوصلوا بذلك إِلَى الطعن في القرآن، لأن من أنكر نبوة مُحَمَّد صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أو طعن فيها فقد طعن في القُرْآن وطعن في الإسلام.
  1. أساس الدين إثبات النبوة

    أساس الدين هو إثبات النبوة لنبيا مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولهذا قال كفار قريش إنما أنت مفتر، وَقَالُوا: ساحر، وشاعر، ومجنون ((وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً))[الفرقان:5]، ((وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُون)) [الفرقان:4] وقالوا غير ذلك من السباب كقولهم: إنما يعلمه بعض الأعجميين، وقولوا: إنما يعلمه بشر، ويجب أن يُعلم أن كل أنواع الافتراءات التي تنكر القُرْآن تعتبر تكذيباً لدعوى النبوة، وإذا كذبوا النبي في دعوى نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعد ذلك ينكروا ما شاءوا.
    لهذا كَانَ مبحث النبوة مبحثاً عظيماً ومهماً في أبواب العقائد، وقد ضل كثير من المتكلمين في هذا الموضوع، إما ضلالاً كلياً، وإما ضلالاً جزئياً، فلم يعرفوا حقيقة النبوة، ولم يدركوا معناها ولا غايتها؛ ولذلك فإنهم لما أرادوا أن يثبتوا نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالطرق الكلامية العقلية أوهنوا دين الإسلام؛ لأن ما قرروه من الطرق والوسائل لإثبات النبوة ليست بالقوة التي يمكن أن يؤمن بها كل عقل؛ لأنها منحرفة عن منهج القُرْآن والسنة في إثبات نبوة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فلما أرادوا إثباتها بطرق محصورة معدودة -كما سنبين إن شاء الله بالتفصيل- كَانَ ذلك مما أوهن بل سهل لأعداء الإسلام أن يطعنوا في دين الإسلام، ولهذا قال شَيْخ الإِسْلامِ ابْن تَيْمِيَّةَ عن هَؤُلاءِ الناس: "إنهم لا للإسلام نصروا، ولا للفلاسفة كسروا" ومع دلائل النبوة التي لا تحصى، فقد أنكرها بعض من استهوتهم الشياطين.
  2. الذين ينكرون النبوة

    من الذين ينكرون النبوة الفلاسفة ومنهم كما يقال البرهمية-الذين هم في الهند عباد الأبقار- والفلاسفة ينكرون النبوات ويقولون: لا حاجة لوجود نبي، والعقول تغني عن الشرائع، والأنبياء ما هم إلا أناسٌ عباقرةٌ عظماء نابغون، تعلموا أنواعاً من الحيل مثل حيل السحر، وجاؤا إِلَى قومهم وَقَالُوا: نَحْنُ أنبياء واستخفوا بعقولهم بهذه الخوارق للعادة فتبعتهم أقوامهم.
    وليس لهم أي دليل من العقل، فلما جَاءَ أهل الكلام، وأرادوا أن يردوا عليهم، ولم يسلكوا منهج القُرْآن والسنة في إثبات نبوة مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والرد عَلَى منكريها، مع كثرة ما جَاءَ في القُرْآن من الحديث عنها، ومع أنها قضية كبرى، ومعركة كبرى دارت بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين قريش، بل سلكوا منهجاً عقلانياً مجرداً يتوقف كله عَلَى إثبات ما أسموه "المعجزة" وأنه لا دليل لثبوت النبوة غير المعجزة، وحصروا الدلائل في المعجزة وحدها، وهذا فعل كثير منهم فلما فعل أهل الكلام ذلك، جَاءَ الفلاسفة وأبطلوا -أيضاً- تأثير المعجزة فكان ذلك مما هيئ لأن يطعن الطاعنون في دين الإسلام.
    إلا أن الإِنسَان الذي ينتهج في عقيدته منهج أهْل السُّنّةِ وَالْجَمَاعَةِ فيقرأ كتاب الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى ويأخذ ويستقي منه كل ما يعتقد يجد إثبات نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجلى من الشمس في رابعة النهار، ولسنا في حاجة إِلَى أن نتعلم من الطرق العقلية ما نرد به عَلَى منكري نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
    والمصنف -رحمه الله تعالى- هنا قد جَاءَ بأدلة كثيرة هي جزء قليل من الأدلة العامة التي -هي أدلة متواترة مستفيضة- تدل عَلَى إثبات النبوة في الجملة، وإثبات نبوته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خاصة فلهذا نذكر كلامه -إن شاء الله- وبعد ذلك نتحدث عن أهمية دراسة سيرة النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.